الحمد لله الأحد الواحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو المستعان على ما نرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقلّ المساعد، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكارم والمحامد، وصحبه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد، وسلم تسليماً كثيراً.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .....
أما بعد عباد الله .. ولا زالت الجرح ينزف على أرض الأقصى المبارك .
وكانت بداية الأحداث الأخيرة ، عملية جهادية مباركة جاءت انتقاماً لدماء الشهداء والأبرياء التي أزهقت في الآونة الأخيرة وكان آخرها مجازر شاطيء غزة وغيرها .
أسفرت العملية الجهادية عن مقتل جنديين من جنود الاحتلال واختطاف ثالث وجرح سبعة آخرين، في عملية أكثر جرأة وتنظيماً وأعمق تخطيطاً منذ اندلاع الانتفاضة الأولى .
جن جنون قوات الاحتلال المجرمة أمام هذه العملية ، فنشرت قواتها ، وحاصرت قطاع غزة حصاراً شديداً بهدف تخليص الجندي المجرم الأسير ، وبدأت الطائرات الإسرائيلية تقصف المباني والمنشآت ، ودمرت محطة الكهرباء في غزة تدميراً شاملاً ، وحتى دور الأطفال المعاقين لم تسلم من الهمجية اليهودية ، فطال القصف جمعية أطفالنا للأطفال الصم . وبدأت القوات اليهودية الحاقدة بالزحف إلى قطاع غزة واقتحامه بكل همجية .
مشاهد مرعبة ومآسي مروِّعة حيث المجازر والمجنـزرات، والقذائف والدبابات، جُثثٌ وجماجم، حصار وتشريد، تقتيلٌ ودمار، في حرب إبادة بشعة، وانتهاك صارخ للقيم الإنسانية، وممارسات إرهابية تسطّرها دماء الشهداء والأبرياء .
مبانٍ دمِّرت، وبيوت هُدّمت، وأنفس أُزهقت، ونساءٍ أيِّمت، وأطفالٍ يُتِّمت .
كل ذلك يحدث على مسمع من العالم ومرآه، وكأن المسلمين لا بواكي لهم، أين العالم بهيئاته ومنظماته؟! أين مجلس أمنهم وهيئة أممهم؟! أين هم من بكاء الثكالى، وصراخ اليتامى، وأنين الأرامل، واغتصاب الأرض، وتدنيس العرض؟! أين شعارات ومنظمات حقوق الإنسان الزائفة؟! وأين هي المقاطعات السياسية والاقتصادية على مجرمي الحرب والمستهترين بالأعراف الدولية والقرارات العالمية؟!
إنها مأساة يعجز اللسان عن تصويرها، ويخفق الجنان عند عرض أحزانها، ويعيَى البيان عن ذكر مآسيها، فرحماك ربنا رحماك، واللهم سلم سلم.
إني أنادي والرياح عصيبة والأرض جمرٌ والديار ضِرام
يا ألف مليون ألا من سامع؟! هل من مجيب أيها الأقوام؟!
قد بُحّ صوتي من ندائكِ أمتي هلا فتًى شاكي السلاح هُمام؟
لقد نكأت الأوضاع المستجدة الجراح، فأين منا خالد والمثنَّى وصلاح؟! يا ويح أمتِنا ماذا أصابها؟! أيطيب لنا عيش، ويهدأ لنا بال، ويرقأ لنا دمع، ومقدساتنا تئنّ، وإخواننا يقصفون ويقتلون؟
إلى متى الذل والمهانة والضعف والهزيمة والاستسلام؟! أما آن لهذا الهوان أن ينتهي، وللضعف والذل أن ينقضي .
أين غضبة المعتصم .. حينما طغى الجنود وقادتهم وأحرقوا البلاد ودنسوا المساجد وتجبروا في بلاد المسلمين وثغورها وهاجموا إحدى بلدان المسلمين فانتهكوا الأعراض وسبوا الديار, ودنسوا المقدسات وشردوا الأهل, لكن امرأة واحدة رأت بارقة أمل في أحد قادة المسلمين فصرخت: وامعتصماه, فلبى صرختها خليفة المسلمين حينذاك المعتصم لبيك أختاه, وحين حاول المنجمون والمثقفون والسياسيون أن يثنوه عن عزمه ضرب بكلامهم عرض الحائط فذهب بنفسه إلى تلك البلاد وحرَّرها وأنقذ أهلها, ثم حارب الروم حتى وصل إلى عمورية فأحرقها ونصر المسلمين, فسطر التاريخ نُصرتَه تلك بمداد لا تنسى,وذهبت القوافي تتبارى في بيان النصر ، فكان قول أبي تمام:
السيفُ أصدقُ إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعب
أين الرواية بل أين النجومُ وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
وخوَّفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكبُ الغربي ذو الذيب
يقضون بالأمر عنها وهي غافـلةٌ ما دارَ في فلكٍ منها وفي قـطب
أما اليوم ، فنشكو إلى الله خذلان أمة الإسلام عن نصرة بعضها البعض, وكثير من النساء تصرخ ولا مجيب, الأعراض انتهكت, والديار أحرقت, والمقدسات دنست.
أمتي هل لك بيـن الأمم منبر للسيـف أو للقلـم
أتلقاك وطرفي مـطـرقٌ خجلاً من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ببقايا كبريـاءِ الألـمِ
ألإسرائيل تعلو رايـةٌ في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليـتم
لامست أسماعهم لكنها لم تُلامس نخوة المعتصم
عباد الله، ماذا يؤكدّ قرآننا وسنة نبينا عن صراعنا مع اليهود؟! ماذا يدوِّن تأريخنا عن هذه القضية وأطرافها؟! .
إن الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقيدة وهوية ووجود.
قال الحق تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ) ، وقال سبحانه: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .
اقرؤوا التأريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيِّئ، ويهودَ اليوم خلف أسوأ، كفَّارُ النعم، ومحرِّفو الكلم، عُبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شُذَّاذ الآفاق، حثالة البشرية، (مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ) .
هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، (وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ) .
حلقات من الغدر والكيد، والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية، وقالوا: إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ، وقالوا: يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيا، وحاولوا قتل محمد فعَمِلوا له السحر، ودسّوا له السمّ .
وهاهم اليوم ، يريدون إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وأن تكون القدس عاصمةً لها، ويطمعون إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم على أساسه، يريدون إبادة دولة التوحيد والقرآن، وإشادة دولة التوراة والتلموذ على أنقاضها، عليهم من الله ما يستحقون. فعلى مبادرات السلام السلام، مع قومٍ هذا ديدنهم عبر التأريخ، وتلك أطماعهم ومؤامراتهم.
أمةَ الجهاد والفداء، إن واجب المسلمين الوقوف مع إخوانهم في العقيدة في فلسطين وغيرها، ودعمهم مادياً وعينياً ومعنوياً، والإنفاق في سبيل الله .
أمة الإسلام .. أنه لا يستردُّ مجدٌ ولا يُطلب نصرٌ إلا بالعودة إلى دين الله ، فليس يصلُح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها، ولن يُحرَّر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به ووصى، ولن تُسترَدَّ المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة والمكرمات، في محافظةٍ على سياج الفضائل، ومجانبةٍ للشرور والرذائل، في محافظةٍ على قيم أبناء المسلمين وفتياتهم، ومجانبَتهم دسائسَ اليهود، ومسالك الشر والفساد، والسفور والتبرج والاختلاط.
فيا أيها المسلم ، اتق الله ، فأنت جزء من جسد هذه الأمة، وجندي في معسكرها .. إن اقترابك من الله بأداء ما افترضه عليك اقتراب من النصر، وإن ابتعادك عن الله باقتراف ما حرمه عليك ابتعاد عن النصر، قال الله عز وجل: (أَوَ لَمَّا أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىء قَدِيرٌ) .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وبسنة نبيه .....
الخطبة الثانية
الحمد لله .. جعل قوة هذه الأمة في إيمانها,وعزها في إسلامها, والتمكين لها في صدق عبادتها, وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, دعا إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد ..عباد الله.
فلسطين ، جرح الأمة المتجدد ، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدّمت الأمة من تضحيات؟ ماذا فعلت وحققت بالتنازلات؟! .
أي معنى لأمةٍ تُقتَل شعوبها ، وتُنتهكُ حرماتها ، وتُدنَّسُ مقدساتها ، وتنهبُ باسم السلام والشرعية الدولية ثم ترى كثيرًا من أفرادِ هذه الأمة وهو عاكفٌ على اللهو والعبث, فهؤلاء يتابعون المباريات الرياضية ، وآخرون يقيمون على الحفلاتٌ الغنائية, في سهوٌ وغفلةٌ ، وكأنَّ ما يحدث لا يَمَسُّ أرضهم ، وكأن الذين يقتلون ليسوا بإخوانهم .
أين دور قادة المسلمين وولاة أمورهم؟ .
أين دورُ المثقفين والكُتاب في عرض القضية وتوضيح أبعادها .. هل يكون روبرت فيسك الكاتبُ البريطاني أكثرُ مصداقية من كثير من كتابنا حين يصف اليهود بالخونة وما يُسمى السلام زائفًا والإعتداء من جهة إسرائيل ؟!
أين دورُ العلماءِ وهم قادة الناس ومُوجهوهم, ويَنتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم ، ووالله لا معنى لعالمٍ أو طالب علم يكون في وادٍ ، وأمته وقضاياها في وادٍ آخر .
أين دور التجار وأصحاب الأموال في دعمهم لقضية فلسطين .. إين دور قنواتنا الإعلامية العربية التي ملأت فضاءنا؟ هل برامجها المعروضة تدلُّ على مصاب الأمة في أبنائها وفاجعتها في مقدساتها .
سبحان الله .. في ذات الوقت التي تعبث فيه مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين ترى جل هذه القنوات وهي ترقص على جراحات الأمة عبر عروضها الغنائية الفاضحة, ومسابقاتها الفنية والكروية .
إن المسلم الغيور لا يملك إلا أن يقول لإخوانه وأهله في الأرض المباركة فلسطين: يا أحبتنا ، عُذراً إن وجدتم من كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لََكَم أحزننا ما أصابكم ، ولكم أرَّقنا أنَّ أقصانا أسيرٌ بأيدي البغاة الطغاة ، فصبراً صبراً أيها المجاهدون المرابطون .
لقد سَطرت بطولاتكم المباركة بأحرف العز والشرف ملحمةً من أروع الملاحم ، لقد أعدتم الأمل في النفوس، فثِقوا بنصر الله لكم، متى ما نصرتم دينه، قلوبنا معكم، والمال نبذله لكم، فواصلوا دربَكم، والله ناصركم، وهنيئاً لكم تقديمُ الأرواح رخيصةً في سبيل الله، ودعاؤنا أن يتقبل الله قتلاكم شهداء، وأن يكتب لمرضاكم عاجل الشفاء، وأن يحيينا وإياكم حياة السعداء . لا تيأسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ) ، (أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) .
اللهم صل على محمد ...
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك, اللهم لا يردُّ أمرك, ولا يُهزم جندك, سبحانك وبحمدك, اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان, اللهم آمن خوفهم, وفك أسرهم, ووحد صفوفهم, وحقق آمالنا وآمالهم وبارك في حجارتهم, واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين, اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة, واجعل جهادهم عبادة اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم, وطهر المقدسات من دنس اليهود المتآمرين والمنافقين والمتخاذلين, اللهم فرج هَمّ المهمومين, وفُكَّ أسر المأسورين والمعتقلين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضاهم ومرضى المسلمين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .