مجموع فتاوى و رسالئل - المجلد الاول النزول محمد بن صالح العثيمين
(96) سئل فضيلة الشيخ: عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له". رواه البخاري؟
فأجاب بقوله : هذا الحديث حديث عظيم ذكر بعض أهل العلم أنه بلغ حد التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنه حديث مستفيض مشهور، وقد شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بكتاب مستقل، لما فيه من الفوائد العظيمة، ففيه ثبوت النزول لله سبحانه وتعالى لقوله: "يتنزل ربنا" والنزول من صفات الله الفعلية، لأنه فعل وهذا النزول نزول الله نفسه حقيقة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله، ونعلم كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق، ونعلم كذلك أنه صلى الله عليه وسلم أصدق الخلق فيما يخبر به، فليس في كلامه شيء من الكذب، ولا يمكن أن يتقول على الله تعالى شيئاً لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أحكامه، قال الله تعالى
ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين ( (1). ونعلم كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق، وأنه، صلى الله عليه وسلم لا يساويه أحد من الخلق في النصحية للخلق، ونعلم كذلك أنه صلى الله عليه وسلم لا يريد من العباد إلا أن يهتدوا، وهذا من تمام نصحه أنه لا يريد منهم أن يضلوا، فهو عليه الصلاة والسلام، أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به، وكذلك لا يريد إلا الهداية للخلق فإذا قال: " ينزل ربنا " فإن أي إنسان يقول : خلاف ظاهر هذا اللفظ قد اتهم النبي صلى الله عليه وسلم إما بأنه غيرعالم، فمثلاً إذا قال: المراد ينزل أمره. نقول : أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرسول يقول : " ينزل ربنا " وأنت تقول : ينزل أمره أأنت أعلم أم رسول الله؟ ! أو أنه اتهمه بأنه لا يريد النصح للخلق حيث عمى عليهم فخاطبهم بما يريد خلافه، ولا شك أن الإنسان الذي يخاطب الناس بما يريد خلافه غير ناصح لهم أو نقول : أنت الآن اتهمت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير فصيح بل هو عيي يريد شيئاً ولكن لا ينطق به، يريد ينزل أمر ربنا ولكن يقول : ينزل ربنا لأنه لا يفرق بين هذا وهذا، فكلامك هذا لا يخلو من وصمة الرسول صلى الله عليه وسلم فعليك أن تتقي الله، وأن تؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى نفسه ينزل حقيقة.
(97) وسئل فضيلته: هل يستلزم نزول الله عز وجل أن يخلو العرش منه أو لا؟.
فأجاب بقوله: نقول: أصل هذا السؤال تنطع، وإيراده غير مشكور عليه مورده، لأننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم صفات الله ؟ إن قال : نعم فقد كذب . وإن قال : لا . قلنا: فليسعك ما وسعهم، فهم ما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله إذا نزل هل يخلو منه العرش؟ وما لك ولهذا السؤال، قل : ينزل واسكت. يخلو منه العرش أو ما يخلو، هذا ليس إليك أنت مأمور بأن تصدق الخبر ولا سيما ما يتعلق بذات الله وصفاته، لأنه أمر فوق العقول فإذاً نقول :هذا السؤال تنطع أصلاً لا يرد وكل إنسان يريد الأدب كما تأدب الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يورده، فإذا قدر أن شخصاً ابتلي بأن وجد العلماء بحثوا في هذا واختلفوا فيه، فمنهم من يقول : يخلو، ومنهم من يقول : لا يخلو، ومنهم من توقف، فالسبيل الأقوم في هذا هو التوقف، ثم القول بأنه لا يخلو منه العرش، وأضعف الأقوال القول بأنه يخلو منه العرش، فالتوقف أسلمها وليس هذا مما يجب علينا القول به، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينه والصحابة لم يستفسروا عنه، ولو كان هذا مما يجب علينا أن نعتقده لبينه الله ورسوله بأي طريق، ونحن نعلم أنه أحياناً يبين الرسول صلى الله عليه وسلم الحق من عنده، وأحياناً يتوقف فينزل الوحي، وأحياناً يأتي أعرابي فيسأل عن شيء، وأحياناً يسأل الصحابة أنفسهم عن الشيء كل هذا لم يرد في هذا الحديث فإذاً لو توقفنا وقلنا : الله أعلم فليس علينا سبيل لأن هذا هو الواقع.
(98) وسئل : هل إذا نزل تقله السماء ؟
فأجاب بقوله: هذا لا يكون، لأنك لو قلت : إن السماء تقله لزم أنه يكون محتاجاً إليها، كما تكون أنت محتاجاً إلى السقف إذا أقلك، ومعلوم أن الله غني عن كل شيء، وأن كل شيء محتاج إلى الله، فإذاً نجزم بأن السماء لا تقله، لأنها لو أقلته لكان محتاجاً إليها وهذا مستحيل على الله عز وجل.
(99) وسئل : هل السماء الثانية فما فوقها تكون فوقه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟
فأجاب بقوله: لا، ونجزم بهذا لأننا لو قلنا بإمكان ذلك لبطلت صفة العلو، وصفة العلو لازمة لله، وهي صفة ذاتية لا تنتفي عن الله ولا يمكن أن يكون شيء فوقه. حينئذ يبقى الإنسان منبهتاً كيف ينزل إلى السماء الدنيا ولا تقله ولا تكون السماوات الأخرى فوقه هل يمكن هذا؟!
الجواب: إذا كنت منبهتاً من هذا فإنما تنبهت إذا قست صفات الخالق بصفات المخلوق، صحيح أن المخلوق إذا نزل إلى المصباح صار السطح فوقه وصار سطح المصباح يقله، لكن الخالق لا يمكن أن يقاس بخلقه، فلا تقل : كيف؟ ولم؟
فإذاً هذان السؤالان: هل السماء تقله؟
الجواب: لا لأنك إن فرضت هذا لزم أن يكون الله محتاجاً إلى السماء والله تعالى غني عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه.
والسؤال الثاني: هل تكون السماوات فوقه ما عدا السماء الدنيا؟
الجواب: لا لأنك لو فرضت ذلك لزم انتفاء صفة العلو لله مع أن العلو من صفات الله الذاتية التي لا ينفك عنها.
فالسؤال هذا من أصله بدعة كما قال مالك للذي سأله عن الاستواء كيف استوى؟ قال: "السؤال عنه بدعة" يعني لأنه ما سأل الصحابة عنه، فأنت الآن ابتدعت في دين الله حيث سألت عن أمر ديني ما سأل عنه الصحابة وهم أفضل منك، وأحرص منك على العلم بصفات الله، لكن مع ذلك لو قال: أنا يساورني القلق أخشى أن أعتقد بصفات الله ما لا يجوز، فبينوا لي وأنقذوني، فحينئذ نبين له لأن الإنسان قد يبتلى بمثل هذه الأمور ويأتيه الشيطان ويوسوس له،ويقول : كيف؟ وكيف؟ حتى يؤدي به إلى أحد محذورين: إما التمثيل، وإما التعطيل، فإذا جاءنا يسأل ويقول : أنقذوني ما زال هذا يتردد في خاطري ما يكفيني أن تقولوا : بدعة كيف أذهب ما في خاطري وقلبي. نقول : نبين لك.
(100) وسئل : هل الذي ينزل هو الله عز وجل أو لا ؟
فأجاب بقوله: ذكرنا فيما سبق أن الذي ينزل هو الله نفسه، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به، وأنصحهم، وأفصحهم مقالاً، وأصدقهم فيما يقول : فهو أعلم، وأنصح، وأفصح، وأصدق، وكل هذه الصفات الأربع موجودة في كلامه عليه الصلاة والسلام، فو الله ما كذب في قوله: " ينزل ربنا " ولا غش الأمة ولا نطق بعي ولا نطق عن جهل ) وما ينطق عن الهوى ( (1).بل هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول : " ينزل ربنا عز وجل ". لكن قال بعض الناس : إن الذي ينزل أمر الله وقال آخرون : الذي ينزل رحمة الله وقال آخرون : الذي ينزل ملك من ملائكة الله، سبحان الله هل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعرف أن يعبر هذا التعبير لا يعرف أن يقول : تنزل رحمة الله، أو ينزل أمر الله، أو ينزل ملك من ملائكة الله؟ الجواب: يعرف أن يعبر ولو كان المراد ينزل أمره أو رحمته’ أو ملكه لكان الرسول عليه الصلاة والسلام، ملبساً على الأمة حين قال: "ينزل ربنا" ولم يكن مبيناً للأمة بل ملبساً عليهم، لأن الذي يقول : لك: "ينزل ربنا" وهو يريد ينزل أمره هل وضح لك وبين أو غشك ولبس عليك؟ الجواب: غشك ولبس عليك فإذاً الذي ينزل هو الرب عز وجل.
وهذا التحريف ولا نقول : هذا التأويل فالقول بأن مثل هذا التحريف تأويل تلطيف للمسألة، وكل تأويل لا يدل عليه دليل فهو تحريف، نقول : هذا التحريف لا شك أنه باطل فإذا قلنا : إن الذي ينزل أمر الله في ثلث الليل فمقتضاه:
أولاً : أنه في غير ثلث الليل لا ينزل أمر الله، وأمر الله نازل في كل لحظة ) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه( (2).
ثانياً : أمر الله ما ينتهي بالسماء الدنيا قال تعالى: ) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض( . وليس إلى السماء الدنيا فقط، فبطل هذا التحريف من جهة أن الأمر لا يختص بهذا الجزء من الليل، وأن الأمر لا ينتهي إلى السماء بل ينزل إلى الأرض.
ورحمة الله أيضاً نفس الشيء نقول رحمة الله عز وجل تنزل كل لحظة ولو فقدت رحمة الله من العالم لحظة لهلك فكل لحظة تنزل الرحمة وتنزل إلى الأرض، إذا ما الفائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء فقط، إذا لم تصلنا الرحمة فلا فائدة لنا منها، فبطل تفسيره بالرحمة بل ما يترتب على تفسيره بالأمر أو بالرحمة من اللوازم الفاسدة أعظم مما يتوهمه من صرف اللفظ إلى الأمر أو الرحمة من المفاسد في تفسيره بنزول الله نفسه.
ثالثاً: هل يمكن للأمر أو الرحمة أن تقول : من يدعوني فأستجيب له إلخ؟
الجواب: لا يمكن أن تقول رحمة الله : من يدعوني، ولا يمكن أن يقول أمر الله : من يدعوني، فالذي يقول هو الله عز وجل كذلك إذا قيل : إن الذي ينزل ملك من ملائكته نقول : الملك إذا نزل إلى السماء الدنيا لا يمكن أن يقول : من يدعوني. أبداً لو قال الملك : من يدعوني صار من دعاة الشرك لأن الذي يجيب الداعي إذا دعاه هو الله عز وجل فلا يمكن للملك أن يقول : هكذا، حتى لو فرض أن الله أمره أن يقول لقال :من يدعو الله فيستجيب له، ولا يمكن لملك من الملائكة وهم لا يعصون الله أن يقول : من يدعوني فأستجيب له، وبهذا بطل تحريف هذا الحديث إلى هذا المعنى أن يكون النازل ملكاً.
وتحريف نصوص الصفات من القرآن والسنة يجري فيها هذا المجرى، يعني أن كل التحريفات إذا تأملتها وجدت أنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب على المفاسد التي توهموها لو أجروا اللفظ على ظاهره، ولهذا نجد الصحابة رضي الله عنهم سلموا من هذا فلا يوجد عنهم حرف واحد في تحريف نصوص الصفات، لأنه ليس فيها إشكال عندهم يجرونها على ظاهرها، كما يجرون آيات الأحكام على ظاهرها، والغريب أن هؤلاء الذين يحرفون في نصوص الصفات وهم لا يستطيعون أن يعقلوها لو حرف أحد من نصوص الأحكام مع أن الأحكام مربوطة بالمصالح والمصالح للعقول فيها مدخل لو حرف أحد في نصوص الأحكام لأقاموا عليه الدنيا، وقالوا : ما يمكن أن تخرج اللفظ عن ظاهره، مع أن الأحكام مربوطة بالمصالح والمصالح للعقل فيها مجال، لكن صفات الله غير مربوطة بهذا، صفات الله طريقها الخبر المجرد يعني ما فيه تلقٍّ في صفات الله نفياً، أو إثباتاً إلا من الكتاب والسنة، ومع ذلك نجد من يعلب بنصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بصفات الله ويحرفها حينما يرى أن العقل يقتضي ذلك، مع أن العقل الذي يدعي أنه يقتضي ذلك، عقل من؟ عقل زيد أو عمرو أو بكر.. كل واحد منهم له عقل يقول : هذا هو الحق ولهذا تجدهم يتناقضون، بل إن الواحد منهم ينقض كلامه بعضه بعضاً، يؤلف كتاباً فينقض به ما في الكتاب الأول وهكذا.
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
فهم يتناقضون لأنهم على غير برهان وعلى غير أساس، فلهذا نقول : الطريق السليم، والمنهج الحكيم هو: ما درج عليه السلف من إجراء هذه النصوص على ظاهرها.
فإذا قال قائل: ظاهرها التمثيل.
قلنا له: أخطأت ليس ظاهرها التمثيل، وكيف يكون ظاهرها التمثيل وهي مضافة إلى الله تعالى والله لا يماثله أحد في ذاته فكذلك في صفاته. فمثلاً قوله تعالى: )ويبقى وجه ربك((1)إذا قال: أنا لا أثبت الوجه حقيقة لأن ظاهره التمثيل، نقول : أخطأت ليس ظاهره التمثيل لأن الله تعالى لم يذكر وجهاً مطلقاً حتى يحمل على المعهود، وإنما ذكر وجهاً مضافاً إلى ذاته )ويبقى وجه ربك( فإذا كان مضافاً إلى ذاته وأنت تؤمن بأن ذاته لا تماثل ذوات المخلوقين وجب أن يكون وجهه لا يماثل أوجه المخلوقين. والله أكبر عليك لو قيل : يد الفيل ما فهمت أنها كيد الهرة لأنها أضيفت إلى الفيل وليست يداً مطلقة حتى تقول : تشترك مع غيرها فلا يمكن أن تفهم من قول القائل: يد فيل أنه كقول القائل : يد هر، أبداً فيكف تفهم إذا قيل : يد الله بأنها كيد زيد أو عمرو؟ أبداً ما يمكن أن تفهم هذا، فكل من قال : إن ظاهر نصوص الصفات التمثيل فإنه كاذب سواء تعمد الكذب أم لم يتعمده، لأنه حتى الذي يقول عن تأويل خاطىء يسمي كاذباً أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي السنابل لما أخبر بأن أبا السنابل قال لسبيعة الأسلمية: لن تنكحي حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كذب أبو السنابل ". مع أنه ما تعمد الكذب لكنه قال قولاً خاطئاً فنحن نقول هذا كاذب سواء تعمد أم لم يتعمد فليس في نصوص الصفات ولله الحمد ما يقتضي التمثيل لا عقلاً ولا سمعاً ثم إن لدينا آية من كتاب الله عز وجل تمحو كل ما ادعي أن فيه تمثيلاً وهي قوله : ) ليس كمثله شيء ( (2). فأنت إذا جاءك نص إثبات فاقرنه بنص هذا النفي ولا تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض بل اقرنه به. فمثلاً قوله تعالى: ) ويبقى وجه ربك ( (3) نقول : وليس كمثل وجه الله شيء لأن الله يقول: ) ليس كمثله شيء ( (4) وعلى هذا فقس، والأمر ولله الحمد ظاهر جداً ولولا كثرة الناس الذين سلكوا هذا المسلك أعني مسلك التأويل في قولهم والتحريف فيما نرى، لولا كثرتهم لكان الأمر غير مشكل على أحد إطلاقاً، لأنه واضح ليس فيه إشكال، فلهذا نقول: يجب علينا أن نؤمن بأن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا هو نفسه كما نؤمن بأنه هو نفسه الذي خلق السماوات وأضاف الخلق إليه، وينزل إلى السماء هو، لأن الإضافة في " ينزل " كالإضافة في "خلق، ويخلق "، ولا فرق فالنازل هو الله، والخالق هو الله، والرازق هو الله، والباسط هو الله، وهكذا ولا فرق بينهما، والإنسان المؤمن الذي يتقي الله عز وجل لا يمكن أن يحرف ما أضافه الله إلى نفسه ويضيفه إلى أمر آخر وإذا أداه اجتهاده إلى ذلك فإنه يكون معذوراً لا مشكوراً، لأن هناك فرقاً بين السعي المشكور وهو ما وافق الحق، وبين العمل المعذور وهو ما خالف الحق لكن نعرف من صاحبه النصح إلا أنه التبس عليه الحق، فإن في هؤلاء المؤولة الذين نرى أن عملهم تحريف فيهم من يعلم منه النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، وللمسلمين، لكن التبس عليهم الحق فضلوا الطريق في هذه المسألة.
وفي قوله: " فيقول : من يدعوني فأستجيب له" في هذا إثبات القول لله وأنه بحرف وصوت لأن أصل القول لابد أن يكون بصوت ولو كان قولاً بالنفس لقيده الله كما قال تعالى: )ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله ( (1) فإذا أطلق القول فلابد أن يكون بصوت، ثم إن كان من بعد سمي نداء، وإن كان من قرب سمي نجاء.
فإذا قال قائل : نحن لا نسمع هذا القول؟
فنقول: أخبرنا به من قوله عندنا أشد يقيناً مما لو سمعنا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم نعلم علم اليقين بأن الله يقول : بخبر أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم ونحن لو سمعنا قولاً، لظننا أنه وجبة شيء سقط، أو حفيف أشجار من رياح فنتوهم فيما نسمع لكن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتوهم فيه فيكون خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا بمنزلة ما سمعنا بآذاننا، بل أشد يقيناً، إذا صح عنه، وهذا الحديث قد صح عنه فهو متواتر أو هو مشهور مستفيض عند أهل السنة والحديث فلذلك نقول : إن الله يقول هذا فينبغي لك وأنت تتهجد لله في هذا الزمن من الليل أن تشعر بأن الله ينادي يقول : من يدعوني فأستجيب له، فتدعو الله تعالى وأنت موقن بهذا والدعاء أن تقول: " يا رب" فهذا دعاء.
وقوله: " من يسألني " أي من يطلب مني شيئاً مثل أن تقول: (يا رب أسألك الجنة ) فهذا سؤال، واجتمع في قول القائل : يا رب أسالك الجنة الدعاء والسؤال.
وقوله: " من يستغفرني فأغفر له" أي من يطلب مني المغفرة مثل أن تقول : يا رب اغفر لي فهذا استغفار، وإذا قال القائل: "اللهم إني أسالك الجنة" فقوله: "اللهم" دعاء لأن أصلها يا الله. وقوله "أسالك الجنة" هذا سؤال فيكون فيه سؤال ودعاء وفي حديث أبي بكر الذي علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " .
فهذا متضمن لثلاثة ، الدعاء في قوله : " اللهم " ، والاستغفار في قوله : " فاغفر لي " ، وفي قوله : "وارحمني " دعاء بالرحمة.
قوله: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" "من " هنا اسم استفهام، والمراد به التشويق وليس المراد به الاستخبار، لأن الله عز وجل يعلم، لكن المراد به التشويق يشوق سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه، وأن يدعوه، وأن يستغفروه وفي هذا غاية الكرم والجود من الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يشوق عباده إلى سؤاله، ودعائه، ومغفرته كقوله
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم( (1).انظر إلى هذا الخطاب الرفيق الشيق ففيه التشويق والرفق)هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( (2) ولم يقل : " يا أيها الذين آمنوا بالله " ما قال هكذا وإن كان قالها في آيات أخرى لكن في هذه الآية ما قال هكذا لأن المقام يقتضي ذلك فالسورة كلها سورة جهاد من أولها إلى آخرها ) فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين( (3). المهم أن في هذا الحديث وأمثاله من كرم الله عز وجل ما هو ظاهر لمن تأمله، وأهم شيء فيما تكلمنا عليه مسألة الصفات فأنا أكرر أن تلتزموا فيها ما التزمه السلف، وأن لا تحيدوا يميناً ولا شمالاً، ولا تسألوا عما لم يسأله السلف، فإن هذا من التنطع والتكلف والابتداع في دين الله، وإني أقول لكم : إن الإنسان كلما تعمق في هذه الأمور فأخشى أن ينقص في قلبه من إجلال الله وعظمته بقدر ما حصل من هذا التعمق في البحث في هذه الأمور واسأل العامي، العامي إذا ذكرت الله عنده اقشعر جلده وإذا ذكرت نزوله إلى السماء الدنيا اقشعر جلده لكن أولئك الذين يتعمقون في الصفات ويحاولون أن يسألوا حتى عن الأظافر نسأل الله لنا ولهم الهداية هؤلاء إذا ذكر عندهم حديث النزول بدؤوا يوردون على أنفسهم أو على غيرهم كيف تكون الحال وثلث الليل يتنقل على الكرة الأرضية؟ وكيف تكون الحال حين نزوله بالنسبة للعلو وبالنسبة للعرش؟
ونحو ذلك من الأسئلة التي تشطح بهم عن تعظيم الله عز وجل وهؤلاء بلا شك سينقص من إجلال الله عز وجل في قلوبهم بقدر ما حاولوا من التعمق في هذه الأمور، وليس إجلالنا لله عز وجل كإجلال الصحابة ولا قريباً منه، وليس حرصنا على العلم بصفات الله كحرص الصحابة وهم ما سألوا هذه الأسئلة ولذلك وأنا أنصحكم لله وأرجو منكم ألا تتعمقوا في هذه الأمور فتسألوا عن أشياء لم يسأل عنها الصحابة. خذوا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتركوا ما عدا ذلك لئلا يوقعكم الشيطان في أمر تعجزون عن التخلص منه قد يوقعكم في التمثيل ويلزمكم إلزاماً بأن تعتقدوا ذلك، لأن الإنسان الذي يتعمق إلى هذا الحد يخشى عليه، خذوا ما جاء في الكتاب وصحيح السنة واحمدوا الله على العافية واسلكوا سبيل السابقين والله أعلم .
(101) سئل الشيخ: كيف نجمع بين حديث أبي هريرة في النزول، وبين الواقع إذ الليل عندنا مثلاً نهار في أمريكا؟
فأجاب بقوله: سؤالكم عن الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفرله "، هذا لفظ البخاري في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل. فتسألون كيف يمكن الجمع بين هذا الحديث، وبين الواقع إذ الليل عندنا مثلاً نهار في أمريكا.
فجوابه: أنه لا إشكال في ذلك بحمد الله تعالى حتى يطلب الجمع، فإن هذا الحديث من صفات الله تعالى الفعلية، والواجب علينا نحو صفات الله تعالى سواء أكانت ذاتية كالوجه واليدين، أم معنوية كالحياة والعلم، أم فعلية كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا فالواجب علينا نحوها ما يلي:
1. الإيمان بها على ما جاءت به النصوص من المعاني والحقائق اللائقة بالله تعالى.
2. الكف عن محاولة تكييفها تصوراً في الذهن، أو تعبيراً في النطق، لأن ذلك من القول على الله تعالى بلا علم. وقد حرمه الله تعالى في قوله: ) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( (1) . وفي قوله تعالى: ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً( (2). ولأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يدرك المخلوق كنه صفاته وكيفيتها، ولأن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتف بالنسبة لكيفية صفات الله تعالى.
3. الكف عن تمثيلها بصفات المخلوقين سواء كان ذلك تصوراً في الذهن، أم تعبيراً في النطق لقوله تعالى: ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( (3).
فإذا علمت هذا الواجب نحو صفات تعالى، لم يبق إشكال في حديث النزول ولا غيره من صفات الله تعالى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر مخاطباً بذلك جميع أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وخبره هذا من علم الغيب الذي أظهره الله تعالى عليه، والذي أظهره عليه وهو الله تعالى عالم بتغير الزمن على الأرض وأن ثلث الليل عند قوم يكون نصف النهار عند آخرين مثلاً.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الأمة جميعاً بهذا الحديث الذي خصص فيه نزول الله تبارك وتعالى، بثلث الليل الآخر فإنه يكون عاماً لجميع الأمة، فمن كانوا في الثلث الآخر من الليل تحقق عندهم النزول الإلهي، وقلنا لهم : هذا وقت نزول الله تعالى بالنسبة إليكم ومن لم يكونوا في هذا الوقت فليس ثم نزول الله تعالى بالنسبة إليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حدد نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بوقت خاص، فمتى كان ذلك الوقت كان النزول، ومتى انتهى انتهى النزول، وليس في ذلك أي إشكال. وهذا وإن كان الذهن قد لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه حتى يقاس به ويجعل ما كان مستحيلاً بالنسبة إلى المخلوق مستحيلاً بالنسبة إلى الخالق فمثلاً إذا طلع الفجر بالنسبة إلينا وابتدأ ثلث الليل بالنسبة إلى من كانوا غرباً قلنا : إن وقت النزول الإلهي بالنسبة إلينا قد انتهى. وبالنسبة إلى أولئك قد ابتدأ، وهذا في غاية الإمكان بالنسبة إلى صفات الله تعالى، فإن الله تعالى: ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح حديث النزول: " فالنزول الإلهي لكل قوم مقدار ثلث ليلهم، فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب، وأيضاً فإنه إذا كان ثلث الليل عند قوم فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد، فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدوق أيضاً عند أولئك، إذا بقي ثلث ليلهم وهكذا إلى آخر العمارة" أ. هـ كلامه رحمه الله.
(102) سئل الشيخ، أعلى الله درجته في المهديين: من المعلوم أن الليل يدور على الكرة الأرضية والله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فمقتضى ذلك أن يكون كل الليل في السماء الدنيا فما الجواب عن ذلك؟
فأجاب بقوله: الواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة أيضاً إلا أنه أخص من التكييف لأنه تكييف مقيد بمماثلة، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه المحاذير الأربعة. ويجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ"لم " ؟ وكيف؟ فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه عن التفكير في الكيفية، وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً، وهذه حال السلف رحمهم الله ولهذا جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى؟
فأطرق برأسه وعلته الرحضاء وقال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً ".
وهذا الذي يقول : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا، لأن الليل يدور على جميع الأرض، فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر.
جوابنا عليه أن نقول: هذا سؤال لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن المستسلم لبينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ونقول : ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً فالنزول فيها محقق، ومتى انتهى الليل انتفى النزول ونحن لا ندرك كيفية نزول الله ولا نحيط به علماً ونعلم أنه سبحانه ليس كمثله شيء، وعلينا أن نستسلم وأن نقول: سمعنا، وامنا، واتبعنا، وأطعنا هذه وظيفتنا.
(103) سئل الشيخ: عما جاء في صحيفة ... من قول الكاتب: " إن نزول الله تعالى يكون في وقت لا يدريه إلا هو"؟
فأجاب بقوله: لقد وددت أن الكاتب لم يستعجل بكتابة مثل هذا الجواب، لأن المقام خطير حيث يتعلق بصفة من صفات الله تعالى، وهذه الجملة التي وقع عنها السؤال لعلها سهو أو سبقة قلم، فإن نزول الله تعالى في وقت معلوم، حدده وعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث الليل، وهو واضح لا إشكال فيه، ولا يقع فيه إشكال إلا على من تصور أن نزول الله تعالى كنزول المخلوقين، أما من قدر الله تعالى حق قدره وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بمثل هذه الأمور الغيبية إلا بما أظهره الله عليه، وأنه صادق فيما أخبر به من ذلك، فإنه لن يشكل عليه هذا الحديث، فإنه يقول : نزول الله تعالى ليس كنزول غيره، فإنه يكون نازلاً إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر بالنسبة لمن كانوا في ذلك الوقت، وليس نازلاً بالنسبة لمن لم يكونوا فيه، هذا مقتضى الحديث، وليس فيه إشكال.
لذا أرجو أن يكون فيما كتبت كفاية، وأن يعيد الكاتب كتابة الجواب حسبما يتبين له من هذه الكتابة التي هي مقتضى الحديث وعين دلالته، لا أقول : لمن تأمله لأنه بمنتهى الوضوح بدون تأمل والله الموفق.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة الحاقة، الآية " 44-46 ".
(1) سورة النجم، الآية "3".
(2) سورة السجدة، الآية " 5 " .
(1) سورة الرحمن، الآية " 27 ".
(2) سورة الشورى، الآية " 11".
(3) سورة الرحمن، الآية " 27 ".
(4) سورة الشورى، الآية " 11 ".
(1) سورة المجادلة، الآية " 8 ".
(1) سورة الصف، الآية " 10 ".
(2) سورة الصف، الآية " 10 ".
(3) سورة الصف، الآية " 14 " .
(1) سورة الأعراف، الآية " 33 ".
(2) سورة الإسراء، الآية " 36 " .
(3) سورة الشورى، الآية 11.