~~بسم الله الرحمن الرحيم~~
~ من وحي الذاكرة ~
٠٠٠عندما تنظر حواليك اليوم و أنت على مشارف سن الشيخوخة ،قد تآكلت أسنانك ووهن عظمك واقوس ظهرك وغزا الشيب مفرقك وحان وقت رحيلك٠٠٠تحاول أن تسترجع ماضيك الذي انفلت منك كما ينفلت الماء من بين أصابعك،عندئذ تعرف بأن العمر قد ضاع منك والزمان قد خانك و قوتك قد خذلتك٠٠٠وحال لسانك يردد٠٠٠ً’’ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبةً’’٠وهوخطاب إلهي يعدد مراحل حياتك : طفولة،شباب،شيخوخة٠فيتبادر إلى ذهنك بأن أغلى وأحلى الأوقات التي عشتها في حياتك تعود إلى زمن الطفولة حيث البراءة والبساطة والصدق والعفوية فتتمنى أن تحيا هذه الحياة مرة أخرى و لكن هيهات٠٠٠
تسترجع ذكرياتك وصورتك الضائعة و أنت طفل في الكتاب في الفصل الدراسي بين دروب القرية في الغابة وأنت تطارد العصافير وتتسلق أشجار البلوط وتضرب السدرة بعصاك ليتساقط نبقها رطبا جنيا وتستحم في برك الوادي الذي لا تجف مياهه,رفتشعرباللذة والسعادة.
كنا نحس في قريتنا ونحن أطفال بالأمن والأمان وبالطمأنينة والسكينة٠كانت قريتنا محصنة بالجبال والغابات جبالها وغاباتها ووديانها وشعابها هو كل ما نعرف٠
ومن هنا نعرج على شخص شهدته القرية حيث كانوا ينادونه بسي موسى، كان يملك مقهى،عبارة عن خيمة متنقلة٠ نصب خيمته قرب الوادي الكبير, وسيلة تنقله كانت عبارة عن دراجة قديمة٠ بواسطتها كان يتنقل ما بين القرى والمدن حيث كان يقدم الشاي المنعنع لسكان البادية الذين كانوا يأتون إلى القرية للتبضع مرة أو مرتين في الأسبوع٠
كان سي موسى قصير القامة،يقبع في جلباب عتيق طول السنة،لايعير اهتماما كبيرا لمظهره،يعيش على الفطرة،سريع الحركة، خفيف الروح ،حاضر النكتة، كثير الضحك و المزاح٠٠٠كان سي موسى عبارة عن رحالة،يتنقل كثيرا،حازما أمتعته لا ندري إلى أين؟كان يطيل الغيبة أحيانا ثم يظهر فجأة٠ كثيرا ما كان ينخرط في ضحك بريء ، تنفرج شفتاه لتظهر بقايا أسنان صدئة لم يكن ليهتم بتنظيفها,كانت ملامحه توحي بأنه اتى من زمن مضى ليزرع النشاط بين رواد خيمته الذين كانوا يفتقرون الى مثل هذه المتعة.كنا -و نحن صغار-نتسمر في مدخل هاته الخيمة الغريبة لنتابع حركاته الساحرة و هو يضيف اعوادا من الحطب قد جمعها من الغابة المحيطة بالقرية, لينعش ناره بها..فوق الموقد (الكانون) وكان الابريق يتربع مملوءا بالماء المغلى الذي يحوله السي موسى الى شاي يعبق برائحة النعناع ...كان الشاي رائعا يرتشفه لاعبوا الورق بلذة لا تقاوم، فيطلبون الصينية" تلو الأخرى ،و السي موسى يلبي كل الطلبات بخفة و رشاقة لم ينل منهما كر الليالي و الأيام...،كان يعول أسرة لا نعرفها..تقطن بعيدا بعيدا ، يذهب اليها بين الفينة و الأخرى على دراجته ،بالمصروف الذي جمعه من رواد الخيمة.
وهكذا نكون قد انتقلنا الى شخصية بارزة عرفتها القرية كذلك ألا وهي ميمونة من منا لا يعرف ميمونة ؟
نصبت خيمتها جانب خط السكة الحديدية تطل على القرية.كانت لاتغادر خيمتها إلا بحثا عن الماء.كانت تملأ جرتها من سقاية القرية السفلى وتحملها على كتفها وتقفل راجعة إلى الخيمة. كنا نناديها بميمونة الشرسة،لاأحد منا نحن الأطفال كان يجرؤ على المرور أمام خيمتها،كانت تدافع عن كيانها بشراسة.وعندما يحين المساء ويجن الليل تقبع ميمونة تحت سقف خيمتها،تتأمل صفحة تاريخ حياتها وتندب حظها الذي لم يسعفها لكي تصبح مثل جميع نساء القرية:زوج ومنزل وأطفال وحنين ودفء.لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن،وذلك هو قدر ميمونة.لقد غادرت ميمونة القرية ذات صباح ولم تعد ولكن لا أحد سأل عنها ولاعرف أين ذهبت؟ولا كيف اختفت؟!...مسكينة هي ميمونة.
وذات يوم ٠٠٠كان سكان القرية متحلقين حول ًالبراريك ًوهم يضجون وكأن أمرا غير عادي حدث٠ركضت وصديقي نحو تجمهر السكان فتسللنا بينهم نسترق السمع ونتقصى حقيقة ماوقع٠٠٠
من خلال الحوار الذي كان يدور بين سكان القرية تبين لنا بأن شخصا قد انتحرشنقا٠
كان رجلا في الثلاثين من عمره أو يزيد بعض الشيء،قدم إلى قريتنا من بادية ًالزكارى ًواستقر بها بعد أن اتخذ لنفسه دكانا من قصدير،يصلح الأحذية المعطوبة أقدم وأعرق إسكافي في قريتنا.
لقب بًالصديقًً لتردد هذه اللفظة كثيرا على لسانه،كان شخصا وديعا غريب الأطوار،يعيش وحيدا،يحب الخلوة،يحوم حول دمن القرية المحاذية للوادي الكبير،يلتقط أي شيء رآه يصلح كمتاع٠٠٠
مرة صنع لنفسه قيثارة ً كان يعزف عليها ليكسر الصمت الذي كان يملأ جنبات ًبراكتهً٠تروقنا نحن الأطفال رؤيته وهو يعزف ويدندن٠كنا نزوره صيفا بعد الزوال،نقف أمام ًبراكته ًفلا يكترث لوقوفنا بل يستمر في عزفه محلقا بخياله في عوالم أخرى...
لم يكن ليلتفت إليناإلا بعد مرور دقائق مهمة،فجأة يستفيق من غفوته منتفضا،فيرحب بنا بضحكته المعهودة٠٠٠كان مسالما ورفيقا للأطفال الصغار لا يؤذي أحدا...مرة ادعى بأنه هوًصاحب الحوت ًالذي ورد ذكره في القرآن !كان يخوض في مسائل ميتافيزيقية فكان الأطفال يصغون إليه باهتمام كبير٠لم يسئ إليه أحد من الأطفال أبدا ٠كنا نتعجب مما يحكيه،كان يبدو لنا وكأنه مشغول البال ومتبرم بالحياةومتشائم ومهموم٠٠٠مرة التقط أسنان حمار من الوادي ليعوض بها أسنانه الأصليةالتي فقدها٠كان ًالصديق ًبصفة عامة لغزا محيرا.
عندما افتقده سكان القرية ذات يوم،وجدوه مشنوقا داخل ًبراكته ًوهو مقيد اليدين بسلك من حديد٠٠٠ولحد الآن لا أحد يعرف من هوالصديق..
٠٠٠تمر ب ًالبراريك ًفتسمع صوت المطرقة ، إنها مطرقة عمي أحمد يعالج حذاءا عتيقا باهتمام كبير٠غير بعيد عنه يوجد سي مصطفى وهو يقلي ًسفنجاً وبعد قليه يضعه فوق صينية ريثما تخف سخونته ليضعه بعد ذلك في سعفة من نبات الحلفة ثم يسلمه إليك٠وأنت في طريقك إلى البيت قد تصادف بنتومية يجوب الأزقة وهو يصرخ بأعلى صوت ًأسفانج ً٠٠٠وهكذا تستفيق القرية كل صباح على صوت بنتومية و مطرقة عمي أحمد.
الأطفال يذهبون إلى المدرسة في حين يذهب الآباء إلى العمل٠وفي المساء يقصد الآباء دكاكين الحي لتجزية الوقت والإستراحة من عناء العمل ويتبادلون أطراف الحديث ويرتشفون كؤوس الشاي المترعة بالنعناع والأبناء فلا يكفون عن الركض بين أسوار القرية ودروبها كفراش متناثر٠٠٠
وغير بعيد عن ساحة اللعب هذه،توجد مقهى با عبدالله السوسي تلمحه من بعيد وأنت تلج بابها متقوقعا في جلبابه وراء ًالكونتوارً مع ثلة من أصحابه يتعاطون لتدخين القنب الهندي بواسطة غليون رقيق و طويل(السبسي)مستأنسين ببعضهم البعض٠٠٠وقتها كان الأطفال يستغلون انشغال باعبدالله بضيوفه للظفر بلعبةًالبيارً مجانا باستعمال حيل من اختراعهم٠٠٠لأن هذه الفرصة كانت لا تتاح لهم إلا و باعبدالله رفقة ضيوفه غارق في الحديث معهم يتبادلون الغليون/السبسي فيما بينهم وهم في قمة الإنتشاء،فكانت بين الآونة والأخرى تنبعث من وراء ًالكونتوارً ضحكات صاخبة توحي للأطفال بأن باعبدالله مشغول بضيوفه، فلا خوف عليهم من هجومه،حيث كان من عادته إذا لاحظ شيئا غير طبيعي أثناء ممارسة الأطفال للعبة ًالبيار ً،قفز من أعلى ًالكونتوار ًليقذفهم بعصا كان يخبئها دائما لهذا الغرض٠فيتدافع الصبية نحو أبواب المقهى للنجاة بجلودهم فتتعالى صيحاتهم وضحكاتهم مهنئين بعضهم البعض على إفلاتهم من العقاب آملين أن يرجعوا مرة أخرى للظفر بلعبة ًالبيار ًمجانا كعادتهم٠٠٠
ومن هنا نتذكر شخص كانوا ينادونه باسم "عبد الكريم",قدم من بلدة "الزكارة" ليستقر بقريتنا ,يملك طاحونة عتيقة منعزلة عن الفيلاج تقع بجانب الوادي الكبير ,تعمل بالبنزين.كان إذا أراد تشغيل الطاحونة طلب من الزبائن إعانته على تشغيلها بواسطة مقبض.في فصل الشتاء حيث شدة البرودة كان يستعصي عليه تشغيلها إذ يصل عدد المحاولات لتحريك وإدارة الآلة الى ما لا نهاية ...حتى يضطر الزبون في غالب الأحيان الى مغادرة الطاحونة ليرجع في اليوم الموالي ... كان "عبد الكريم" مدمنا على "الُّشُّمة" ,قلما يخلو فمه منها,إذا تحدث اليك قذفك بشيء من رذاذ فمه ... لا يكف عن الثرثرة وسط جعجعة المحرك ليختم حديثه معك و أنت تمسك بكيس الدقيق الذي امتلأ عن آخره بلفظة:آبالاك.
كنا نعيش في عالم سحري وساحري في نفس الوقت٠٠٠
كنا ننزل إلى المدينة من أجل الدراسة فقط مكرهين فنحس بالغربة والضياع ولا تشعر بالراحة والإرتياح إلا وأنت بين أهل قريتك وفي حضن والديك،جالسأ أمام ًالفورنوًالمملوء بالفحم الحجري وقد احمرت حديدته وغمرالدفء كل أرجاء المنزل،ترشف كؤوس الشاي الساخنة مع خبز ساخن في فصل شتاء قارس والثلج قد حاصر القرية من كل جانب فلا يتبادروقتها إلى ذهنك سوى التفكير في تلك الحيوانات البرية رفقة صغارها كيف ستقضي ليلها في جو كهذا٠٠٠أما أنت أيها القروي ففي كل ليلة تعيش سمرا ليليا مع أفراد عائلتك متحلقين حولً الفورنوً وعندما تدب الحرارة إلى كيانك ويتعب جفناك وتحمر وجنتاك تستسلم فجأة للنوم لتنسى كل متاعب النهار فلا تستفيق إلا على صوت والدتك وهي توقظك في الصباح الباكر لكيلا تخلف موعد الدراسة.
تلك أيام رائعة أطمعتنا حلاوتها في المزيد ، و انتظرنا و لا مزيد...تراكمت على كواهلنا السنون و بتنا نبحث عن سعادة الماضي علنا نعثر على بعض منها.و في كل ما أبـقـتــه الهمجية ليكون شاهدا على فرحتنا الطفولية
لا بأس أن يعزي الإنسان نفسه و يبحث عن السلوى من بين الذكريات المتراقصة أمامنا و لا بأس أن نحس بدفء "الفورنو" الذي كنا نجتمع حوله فنبدد قر الشتاء و نحكي حكايا الأماسي الجميلة عندما كنا نقتسم فرحتنا عن طيب خاطر..عندما كان الكل ينتشي باللقاء ّو أي لقاء..لم يكن في وسعنا إلا أن نمرح و أن نشترك في فرح كان ينغصه علينا رواد القرية .